فضلاً عما ذكرناه أعلاه من مؤلفات، لدينا إثنين أو
أكثر من الحكايات الملحمية، أو مما يمكن أن تندرج من نوع ما قبل الملحمة،
بأبطال إلهيين معروفين. تخبرنا الأولى، وهي تتألف من 183 سطراً، عن حالة
قتال بين الإلهة أينانا وكائنات بأجساد بشرية من العالم السفلي(أيبخ) كما
يسميهم النص(22)، والنص الثاني يصف حرب الإله نينورتا ضد العفريت
الشيطان(آساگ) والذي كان يسكن في العالم السفلي كذلك. في ذات الوقت يبدو
نينورتا كأنه من سلف الأبطال. وقد بنى خندق من دعامات ضخمة من الأحجار
لغرض حماية سومر من مياه المحيط الأولية التي تتدفق على الحقول، وهكذا
حولها إلى نهر دجلة(23).
يمكن عد ما كان يسمى بالأساطير التفسيرية،
وهي الأكثر عمومية في الآداب السومرية، وهي تتعلق بدراسة الأسباب، أي
تقديم الأسباب الكامنة وراء كثير من الظواهر التي يراها الإنسان في العالم
الواقعي. وقد كانت في الأساطير السومرية تتعامل مع أعمال الإبداع الإلهية.
وقد وصفت هذه الأساطير، من ضمن أشياء أخرى، خلق العالم كما تصوره
السومريون(24). ربما لم تنتج سومر أساطير نشؤ الكون الشاملة(أو، على
الأقل، لم تكن مكتوبة لديهم). ومن الصعب شرح مثل هذا الأمر. ومن غير
المحتمل، أن تكون فكرة صراع القوى الطبيعية الهائلة (الآلهة والكائنات
الخرافية الضخمة، الآلهة الأكبر والأصغر سناً إلخ) ليس لها مكان في الفهم
السومري للعالم، وبشكل خاص منذ موضوع موت وإنبعاث الطبيعة (عندما الإله
يموت ثم يعود من العالم السفلي) كانت قد تطورت فعلياً وعلى نحو جيد في
الأساطير السومرية، كما شاهدناها من خلال قصص إينانا ودموزي والآلهة
الأخرى مثل أنليل(25).
ربما كان تنظيم الحياة على الأرض - ترسيخ
التنظيم والرخاء الإقتصادي- هو الموضوع الأكثر تفضيلاً في الشعر السومري.
مثل هذه المؤلفات تتضمن قصص حول خلق الآلهة، التي كانت واجباتها ومهماتها
الإشراف على تنظيم الأرضي وتعيين مهمات وواجبات الآلهة، وترسيخ سلطة
الآلهة وتزويد الأرض بالكائنات الحية، وحتى لخلق آلات الفلاحة المتنوعة.
الآلهة الرئيسة التي عملت كآلهة خلق كانت هي أنكي وأنليل(26).
يمكن
القول أن الكثير من الأساطير التفسيرية قد بنيت بشكل حوارات بين ممثلين من
الفروع المتنوعة في الإقتصاد أو حتى بين أشياء مختلفة من الحياة اليومية،
كل واحدة تحاول أن تثبت تفوقها على الأخرى، إذ يوجد لدينا حوالي سبعة عشر
نصاً مدوناً باللغة السومرية، منها المحاورة أو المناظرة بين الماشية
والغلة والخشبة والقصبة والراعي والفلاح والصيف والشتاء وغيرها(27). لعبت
الأيدوبا السومرية دوراً كبيراً في إنطلاق هذا النوع من الجنس الأدبي،
والتي كانت النموذج للعديد من الآداب الشرقية اللاحقة، فمن هذا النوع من
المحاورات لدينا حوار بين التلميذ والخريج والكاتب وناظره، وكذلك نظم
المدرسة(28). نعرف القليل من المعلومات عن هذه المدرسة في مرحلتها
المبكرة: نعرف فقط أنها وجدت. (العديد من الأدوات التعليمية من عصر ما قبل
الكتابة كانت متاحة). أصبحت الأيدوبا مؤسسة محددة بوضوح على الأقل في
مرحلة مبكرة من الألف الثالث ق.م، وكان الهدف الأساسي لها كان الممارسة
المجردة، فالمدرسة تحضر النساخ أو الكُتٌاب والمساحون وآخرون مثل
المحترفون(المختصون). ولأن المدرسة تطورت، فأن تعلمها أصبح أكثر شمولية،
وكان ذلك في حوالي نهاية الألف الثالث ق.م، وبداية الألف الثاني ق.م، لقد
أصبحت المدرسة مركزاً أكاديمياً في زمانها(29).
جميع الفروع المعروفة
الموجودة كانت فكرية، منها الرياضيات والقواعد والغناء والموسيقى
والقانون. وتضمنت الدراسات التعليم بواسطة قوائم روتينية طيبة ونباتية
وجغرافية والعقاقير والمصطلحات القانونية (أيضاً القوانين) إلخ. فضلاً عن
قوائم بالمؤلفات الأدبية(30).
معظم المؤلفات التي ذكرت أعلاه جاءت
إلينا على شكل نصوص كتبت بواسطة المعلمين أو الطلاب في هذه المدارس. ولكن
هناك أيضاً مقالات أدبية تصف الحياة في المدرسة، مع ذكر قواعدها وأعمالها
التعليمية ومنها الوصايا الأخلاقية والنصائح الأخلاقية والتعليمات(31).
وجميع هذه توجه إلى الطلاب، وهي تأخذ بالتالي شكل حوارات بقالب شعري. ولكن
بعض هذه النصوص كانت تتعلق بالحكمة والأمثال والأقوال والخرافات. (لدينا
فقط مثال معروف عن حكايات الجن السومرية بشكل نثري كان في نص مدرسي)(32).
بشكل عام نستطيع أن نشير إلى غنى وتنوع الأدب السومري حتى من خلال هذا
الإيجاز المختصر. هذه المواد الضخمة المتعددة الأشكال نشأت في أوقات
مختلفة، وإن كان معظمها قد كتب في نهاية الألف الثالث وربما مطلع الألف
الثاني ق.م. وقد حفظت الكثير من إبداعات الفن الأدبي الشفهي.إذ تمتد جذور
الشعر السومري المكتوب- ومعظم الأعمال الأدبية السومرية التي جاءتنا في
صيغة الشعر- إلى شاعر البلاط الأمي، وعصور ما قبل الكتابة، وإلى المنشد
والموسيقار في المعبد(33). وقد كان الأسلوب السردي الأساسي لمعظم القصص
الملحمية الأسطورية والقصص ما قبل الملحمية هو التكرار المستمر لنفس
الحوارات، التي كانت قد صيغت في نفس الكلمات ولكن كانت تلقى بين متحاورين
مختلفين على التوالي. وهي لم تكن مجرد نموذج ثلاثي متكرر في الملاحم
وحكايات الجن، ويكون التكرار في الأدب السومري في بعض الأحيان لتسع مرات،
وقد اعتبر الأداة الجمالية عند المدﹼاحين والمغنين الشعبيين، وهو أحد
الملامح الأسلوبية السائدة. ولكنه كان أكثر أهمية، لمساعدة الذاكرة(34).
هذا الأسلوب السردي كان على ما يبدو موروث من التحول الشفهي للأساطير
والقصائد، والكلام ذو الصفة الإيقاعية والسحرية، وتذكير تعزيمات
الشامانت(الكهنة)(35).
هذه المؤلفات رُكبت في معظمها من حوارات متكررة
ومونولوجات، حيث الفعل كان بطيئاً،ويبدو لنا كأنه فضفاض، وجاف ومن ثم غير
كامل (ولو أنه من المؤكد أن القدماء لا يعتبروه مثل هذا). فإذا ما كانت
القصة التي كتبت على لوح الطين قد صممت كنوع من الإيجاز ليوجه ويرشد ذاكرة
القاص؟ فلماذا كان من الضروري تكرار نفس الجملة تسع مرات على الأكثر؟ يبدو
هذا الأمر غريباً تماماً بسبب أن كتابة الألواح كانت عملية شاقة وغير
واسعة النطاق. هذه الحقيقة لوحدها تحتاج إلى أن تشير إلى الحاجة إلى
الإختصار وحفظ الحيز.(والتي عادة ما تأخذ بنظر الإعتبار في الأدب الأكدي
نحو منتصف الألف الثاني ق.م). كل هذا يشير إلى أن الأدب السومري، إلى درجة
كبيرة، لم يكن أكثر من تسجيل الأدب الشفهي. إذ لم يكن في نية الكُتاب
الإنحراف من الكلمة المحكية، التي وضعوها على الطين، لتحفظ كل الصفات
الأسلوبية والمزايا للكلام الشعري المحكي(36).
بالرغم من ذلك، فإنه
من المهم أن نلاحظ بأن السومريين، وتحديداً رجال الأدب(النساخ) لم يكونوا
ينوون أن ينتجوا أو ينسخوا في الكتابة كل المعارف الشفهية وجميع أنواعها.
وقد كان الإختيار يتحدد من خلال حاجات المدرسة و، جزئياً، العبادة.
الموازي إلى كتابة العصر الشبيه بالكتابي، من المؤلفات الشفهية إستمرت
بالوجود، ولكنها بقيت غير مسجلة. فن الكلام(الحديث). وربما كان فن الكلام
المحكي حتى أكثر غنى من الكتابة(37).
من الخطأ أن نستنتج بأن الأدب
السومري الأولي يفتقر إلى القيمة الفنية والعاطفية. الطريقة المجازية
للتفكير نفسه تعزز الكلام الخيالي وتعمل كذلك على استعمال سمة التناظر
النموذجية للشعر الشرقي القديم. كانت القصائد السومرية عملياً كلام
إيقاعي. ولم يكن لديهم مقياس صارم؛ وإننا سوف نفشل في محاولتنا إيجاد أي
إشارات عن النظم الشعري وفقرات نوعية من التفعيلة ووقفات (فواصل) أو
المقاطع المشددة. وأننا بلا شك ما زلنا غير قادرين اليوم على التمييز بشكل
جازم بين المنظومات النثرية والشعرية، ولا على البت في تحديد المقاطع
النثرية الواردة ضمن المنظومات الشعرية. إن محاولة تحليل الإيقاع الشعري
في القصائد السومرية مازالت في البدايات تماماً، ولا يمكن حالياً توقع ما
إذا كانت ستحقق نجاحاً(38).
كان من بين الأساليب الشعرية الرئيسة
المستعملة لتوكيد الإيقاع؛ التكرار والسرد الإيقاعي للألقاب الإلهية،
وتكرار اللفظة المتعاقبة من الكلمات الأولى من بيت الشعر للعديد من البيوت
وهكذا(39). وجميع هذه الأساليب كانت تعزى إلى الشعر الشفهي، الذي كان
تأثيره العاطفي كان قد حفظ هنا في الأدب المكتوب(40).
لقد عكس الأدب
الكتابي السومري أيضاً التحول من طريقة التفكير البدائية(الأولية) إلى ذلك
المجتمع النوعي الجديد. فعند فحص النصوص السومرية القديمة، وبشكل خاص
المؤلفات الأسطورية، سوف نصدم بالنقص في الصورة الشعرية من (طراز عالي).
فلم تكن الآلهة السومرية ببساطة مخلوقات أرضية وفقاً للمقياس الأرضي.
عالمها لم يكن عالم المشاعر والأعمال الإنسانية. ولكن من السهل أن نرى كيف
أن الناس الأوائل، مع شعورهم بالعجز أو الوهن في مواجهة القوى الطبيعية
الأعظم التي لا تقهر، يرون أنفسهم بدون مساعدة، في رحمة هذه القوى(41).
يمكن أن نتصور على نحو جيد، الآلهة ككائنات تخلق أشياء حية من التربة تحت
أظافرهم، وككائنات تستطيع أن ترسل الطوفان ليدمر جميع البشرية(42).
أطلق السومريون على العالم السفلي إسم(كور) والتي ربما تعني الجبل، ومن
الأوصاف المتاحة، يبدو أنه كان مكان هيولي وبدون أمل بالعودة(43). ليس
هناك قاض للميت، وليس هناك مقاييس لتزن أعمال الناس. وهناك القليل أو ليس
هناك تصورات عن العدالة بعد الموت. وقد كانت الأيدلوجية التي تحسب هذا
الشعور الطبيعي بالرعب وفقدان الأمل، كانت على كل حال، نفسها عاجزة في
بادىء الأمر(44).
أخيراً نقول إن المؤلفات الكتابية السومرية تحاكي
الموضوعات والأشكال من الشعر الشفهي الأولي. ولأن أيدلوجية المجتمع النوعي
قد تطورت وبالتدريج أصبحت شائعة في القسم الجنوبي من بلاد وادي الرافدين،
فإن محتوى الأدب قد تغير أيضاً. إذ بدأ يطور أشكالاً وأنواع جديدة،
والفجوة بين الدور الكتابي والشفهي بدأت تتسع وتصبح واضحة تماماً. في
المرحلة المتأخرة تقريباً من تطور المجتمع السومري، الأدب التعليمي
والموضوعات الأسطورية المتسلسلة ترينا نمو إتجاهات مستقلة ومختلفة على نحو
ظاهر من تطور الكلمة المكتوبة. هذه المرحلة الجديدة في الأدب كانت، على كل
حال، لم تفصل كثيراً من قبل السومريين ولكن من قبل ورثتهم الحضاريين أي
الأكديين
أكثر من الحكايات الملحمية، أو مما يمكن أن تندرج من نوع ما قبل الملحمة،
بأبطال إلهيين معروفين. تخبرنا الأولى، وهي تتألف من 183 سطراً، عن حالة
قتال بين الإلهة أينانا وكائنات بأجساد بشرية من العالم السفلي(أيبخ) كما
يسميهم النص(22)، والنص الثاني يصف حرب الإله نينورتا ضد العفريت
الشيطان(آساگ) والذي كان يسكن في العالم السفلي كذلك. في ذات الوقت يبدو
نينورتا كأنه من سلف الأبطال. وقد بنى خندق من دعامات ضخمة من الأحجار
لغرض حماية سومر من مياه المحيط الأولية التي تتدفق على الحقول، وهكذا
حولها إلى نهر دجلة(23).
يمكن عد ما كان يسمى بالأساطير التفسيرية،
وهي الأكثر عمومية في الآداب السومرية، وهي تتعلق بدراسة الأسباب، أي
تقديم الأسباب الكامنة وراء كثير من الظواهر التي يراها الإنسان في العالم
الواقعي. وقد كانت في الأساطير السومرية تتعامل مع أعمال الإبداع الإلهية.
وقد وصفت هذه الأساطير، من ضمن أشياء أخرى، خلق العالم كما تصوره
السومريون(24). ربما لم تنتج سومر أساطير نشؤ الكون الشاملة(أو، على
الأقل، لم تكن مكتوبة لديهم). ومن الصعب شرح مثل هذا الأمر. ومن غير
المحتمل، أن تكون فكرة صراع القوى الطبيعية الهائلة (الآلهة والكائنات
الخرافية الضخمة، الآلهة الأكبر والأصغر سناً إلخ) ليس لها مكان في الفهم
السومري للعالم، وبشكل خاص منذ موضوع موت وإنبعاث الطبيعة (عندما الإله
يموت ثم يعود من العالم السفلي) كانت قد تطورت فعلياً وعلى نحو جيد في
الأساطير السومرية، كما شاهدناها من خلال قصص إينانا ودموزي والآلهة
الأخرى مثل أنليل(25).
ربما كان تنظيم الحياة على الأرض - ترسيخ
التنظيم والرخاء الإقتصادي- هو الموضوع الأكثر تفضيلاً في الشعر السومري.
مثل هذه المؤلفات تتضمن قصص حول خلق الآلهة، التي كانت واجباتها ومهماتها
الإشراف على تنظيم الأرضي وتعيين مهمات وواجبات الآلهة، وترسيخ سلطة
الآلهة وتزويد الأرض بالكائنات الحية، وحتى لخلق آلات الفلاحة المتنوعة.
الآلهة الرئيسة التي عملت كآلهة خلق كانت هي أنكي وأنليل(26).
يمكن
القول أن الكثير من الأساطير التفسيرية قد بنيت بشكل حوارات بين ممثلين من
الفروع المتنوعة في الإقتصاد أو حتى بين أشياء مختلفة من الحياة اليومية،
كل واحدة تحاول أن تثبت تفوقها على الأخرى، إذ يوجد لدينا حوالي سبعة عشر
نصاً مدوناً باللغة السومرية، منها المحاورة أو المناظرة بين الماشية
والغلة والخشبة والقصبة والراعي والفلاح والصيف والشتاء وغيرها(27). لعبت
الأيدوبا السومرية دوراً كبيراً في إنطلاق هذا النوع من الجنس الأدبي،
والتي كانت النموذج للعديد من الآداب الشرقية اللاحقة، فمن هذا النوع من
المحاورات لدينا حوار بين التلميذ والخريج والكاتب وناظره، وكذلك نظم
المدرسة(28). نعرف القليل من المعلومات عن هذه المدرسة في مرحلتها
المبكرة: نعرف فقط أنها وجدت. (العديد من الأدوات التعليمية من عصر ما قبل
الكتابة كانت متاحة). أصبحت الأيدوبا مؤسسة محددة بوضوح على الأقل في
مرحلة مبكرة من الألف الثالث ق.م، وكان الهدف الأساسي لها كان الممارسة
المجردة، فالمدرسة تحضر النساخ أو الكُتٌاب والمساحون وآخرون مثل
المحترفون(المختصون). ولأن المدرسة تطورت، فأن تعلمها أصبح أكثر شمولية،
وكان ذلك في حوالي نهاية الألف الثالث ق.م، وبداية الألف الثاني ق.م، لقد
أصبحت المدرسة مركزاً أكاديمياً في زمانها(29).
جميع الفروع المعروفة
الموجودة كانت فكرية، منها الرياضيات والقواعد والغناء والموسيقى
والقانون. وتضمنت الدراسات التعليم بواسطة قوائم روتينية طيبة ونباتية
وجغرافية والعقاقير والمصطلحات القانونية (أيضاً القوانين) إلخ. فضلاً عن
قوائم بالمؤلفات الأدبية(30).
معظم المؤلفات التي ذكرت أعلاه جاءت
إلينا على شكل نصوص كتبت بواسطة المعلمين أو الطلاب في هذه المدارس. ولكن
هناك أيضاً مقالات أدبية تصف الحياة في المدرسة، مع ذكر قواعدها وأعمالها
التعليمية ومنها الوصايا الأخلاقية والنصائح الأخلاقية والتعليمات(31).
وجميع هذه توجه إلى الطلاب، وهي تأخذ بالتالي شكل حوارات بقالب شعري. ولكن
بعض هذه النصوص كانت تتعلق بالحكمة والأمثال والأقوال والخرافات. (لدينا
فقط مثال معروف عن حكايات الجن السومرية بشكل نثري كان في نص مدرسي)(32).
بشكل عام نستطيع أن نشير إلى غنى وتنوع الأدب السومري حتى من خلال هذا
الإيجاز المختصر. هذه المواد الضخمة المتعددة الأشكال نشأت في أوقات
مختلفة، وإن كان معظمها قد كتب في نهاية الألف الثالث وربما مطلع الألف
الثاني ق.م. وقد حفظت الكثير من إبداعات الفن الأدبي الشفهي.إذ تمتد جذور
الشعر السومري المكتوب- ومعظم الأعمال الأدبية السومرية التي جاءتنا في
صيغة الشعر- إلى شاعر البلاط الأمي، وعصور ما قبل الكتابة، وإلى المنشد
والموسيقار في المعبد(33). وقد كان الأسلوب السردي الأساسي لمعظم القصص
الملحمية الأسطورية والقصص ما قبل الملحمية هو التكرار المستمر لنفس
الحوارات، التي كانت قد صيغت في نفس الكلمات ولكن كانت تلقى بين متحاورين
مختلفين على التوالي. وهي لم تكن مجرد نموذج ثلاثي متكرر في الملاحم
وحكايات الجن، ويكون التكرار في الأدب السومري في بعض الأحيان لتسع مرات،
وقد اعتبر الأداة الجمالية عند المدﹼاحين والمغنين الشعبيين، وهو أحد
الملامح الأسلوبية السائدة. ولكنه كان أكثر أهمية، لمساعدة الذاكرة(34).
هذا الأسلوب السردي كان على ما يبدو موروث من التحول الشفهي للأساطير
والقصائد، والكلام ذو الصفة الإيقاعية والسحرية، وتذكير تعزيمات
الشامانت(الكهنة)(35).
هذه المؤلفات رُكبت في معظمها من حوارات متكررة
ومونولوجات، حيث الفعل كان بطيئاً،ويبدو لنا كأنه فضفاض، وجاف ومن ثم غير
كامل (ولو أنه من المؤكد أن القدماء لا يعتبروه مثل هذا). فإذا ما كانت
القصة التي كتبت على لوح الطين قد صممت كنوع من الإيجاز ليوجه ويرشد ذاكرة
القاص؟ فلماذا كان من الضروري تكرار نفس الجملة تسع مرات على الأكثر؟ يبدو
هذا الأمر غريباً تماماً بسبب أن كتابة الألواح كانت عملية شاقة وغير
واسعة النطاق. هذه الحقيقة لوحدها تحتاج إلى أن تشير إلى الحاجة إلى
الإختصار وحفظ الحيز.(والتي عادة ما تأخذ بنظر الإعتبار في الأدب الأكدي
نحو منتصف الألف الثاني ق.م). كل هذا يشير إلى أن الأدب السومري، إلى درجة
كبيرة، لم يكن أكثر من تسجيل الأدب الشفهي. إذ لم يكن في نية الكُتاب
الإنحراف من الكلمة المحكية، التي وضعوها على الطين، لتحفظ كل الصفات
الأسلوبية والمزايا للكلام الشعري المحكي(36).
بالرغم من ذلك، فإنه
من المهم أن نلاحظ بأن السومريين، وتحديداً رجال الأدب(النساخ) لم يكونوا
ينوون أن ينتجوا أو ينسخوا في الكتابة كل المعارف الشفهية وجميع أنواعها.
وقد كان الإختيار يتحدد من خلال حاجات المدرسة و، جزئياً، العبادة.
الموازي إلى كتابة العصر الشبيه بالكتابي، من المؤلفات الشفهية إستمرت
بالوجود، ولكنها بقيت غير مسجلة. فن الكلام(الحديث). وربما كان فن الكلام
المحكي حتى أكثر غنى من الكتابة(37).
من الخطأ أن نستنتج بأن الأدب
السومري الأولي يفتقر إلى القيمة الفنية والعاطفية. الطريقة المجازية
للتفكير نفسه تعزز الكلام الخيالي وتعمل كذلك على استعمال سمة التناظر
النموذجية للشعر الشرقي القديم. كانت القصائد السومرية عملياً كلام
إيقاعي. ولم يكن لديهم مقياس صارم؛ وإننا سوف نفشل في محاولتنا إيجاد أي
إشارات عن النظم الشعري وفقرات نوعية من التفعيلة ووقفات (فواصل) أو
المقاطع المشددة. وأننا بلا شك ما زلنا غير قادرين اليوم على التمييز بشكل
جازم بين المنظومات النثرية والشعرية، ولا على البت في تحديد المقاطع
النثرية الواردة ضمن المنظومات الشعرية. إن محاولة تحليل الإيقاع الشعري
في القصائد السومرية مازالت في البدايات تماماً، ولا يمكن حالياً توقع ما
إذا كانت ستحقق نجاحاً(38).
كان من بين الأساليب الشعرية الرئيسة
المستعملة لتوكيد الإيقاع؛ التكرار والسرد الإيقاعي للألقاب الإلهية،
وتكرار اللفظة المتعاقبة من الكلمات الأولى من بيت الشعر للعديد من البيوت
وهكذا(39). وجميع هذه الأساليب كانت تعزى إلى الشعر الشفهي، الذي كان
تأثيره العاطفي كان قد حفظ هنا في الأدب المكتوب(40).
لقد عكس الأدب
الكتابي السومري أيضاً التحول من طريقة التفكير البدائية(الأولية) إلى ذلك
المجتمع النوعي الجديد. فعند فحص النصوص السومرية القديمة، وبشكل خاص
المؤلفات الأسطورية، سوف نصدم بالنقص في الصورة الشعرية من (طراز عالي).
فلم تكن الآلهة السومرية ببساطة مخلوقات أرضية وفقاً للمقياس الأرضي.
عالمها لم يكن عالم المشاعر والأعمال الإنسانية. ولكن من السهل أن نرى كيف
أن الناس الأوائل، مع شعورهم بالعجز أو الوهن في مواجهة القوى الطبيعية
الأعظم التي لا تقهر، يرون أنفسهم بدون مساعدة، في رحمة هذه القوى(41).
يمكن أن نتصور على نحو جيد، الآلهة ككائنات تخلق أشياء حية من التربة تحت
أظافرهم، وككائنات تستطيع أن ترسل الطوفان ليدمر جميع البشرية(42).
أطلق السومريون على العالم السفلي إسم(كور) والتي ربما تعني الجبل، ومن
الأوصاف المتاحة، يبدو أنه كان مكان هيولي وبدون أمل بالعودة(43). ليس
هناك قاض للميت، وليس هناك مقاييس لتزن أعمال الناس. وهناك القليل أو ليس
هناك تصورات عن العدالة بعد الموت. وقد كانت الأيدلوجية التي تحسب هذا
الشعور الطبيعي بالرعب وفقدان الأمل، كانت على كل حال، نفسها عاجزة في
بادىء الأمر(44).
أخيراً نقول إن المؤلفات الكتابية السومرية تحاكي
الموضوعات والأشكال من الشعر الشفهي الأولي. ولأن أيدلوجية المجتمع النوعي
قد تطورت وبالتدريج أصبحت شائعة في القسم الجنوبي من بلاد وادي الرافدين،
فإن محتوى الأدب قد تغير أيضاً. إذ بدأ يطور أشكالاً وأنواع جديدة،
والفجوة بين الدور الكتابي والشفهي بدأت تتسع وتصبح واضحة تماماً. في
المرحلة المتأخرة تقريباً من تطور المجتمع السومري، الأدب التعليمي
والموضوعات الأسطورية المتسلسلة ترينا نمو إتجاهات مستقلة ومختلفة على نحو
ظاهر من تطور الكلمة المكتوبة. هذه المرحلة الجديدة في الأدب كانت، على كل
حال، لم تفصل كثيراً من قبل السومريين ولكن من قبل ورثتهم الحضاريين أي
الأكديين