جمعه الطلبي(*)
(خاص للمعهد)
يحتل
الأدب السومري المحض منزلة عالية بين إبداعات الإنسان المتمدن الفنية، حتى
أن المقارنة بينه وبين الروائع الإغريقية والعبرانية لا تؤدي إلى أحكام في
غير صالحه إلى درجة كبيرة. فمثله مثل تلك الروائع يعكس الحياة الروحية
والفكرية لحضارة قديمة، ولولاه لبقيت هذه الحضارة مجهولة بصورة عامة.
ومهما قيل في أهمية هذا الأدب لتقويم التطور الحضاري والعقلي في كل الشرق
الأدنى القديم بشكل مناسب، فإنه لا يكون قولاً مبالغاً فيه. فقد أخذ
الأكديون والآشوريون والبابليون هذه الأعمال بكاملها تقريباً، وترجم
الحثيون والحوريون والكنعانيون بعضاً منها إلى لغاتهم الخاصة، وقلدوها بلا
شك تقليداً واسعاً. وتأثرت صيغة الأعمال الأدبية العبرانية ومحتواها(1)،
بل حتى أعمال قدماء الإغريق تأثرت إلى حد ما تأثراً عميقاً بالأعمال
الأدبية السومرية(2).
لدينا الآن أكثر من مئة وخمسين عملاً أدبياً
سومرياً، العديد منها حفظت في شكل كسر متشظية. وتضم هذه الأعمال؛ حكايات
أسطورية بشكل نظم شعري وملاحم شعرية وترنيمات مقدسة وأغاني الحب الزوجية
التي ترتبط بالزواج المقدس للملوك المؤلهين والكاهنات والمراثي الجنائزية
والشكوى من الفواجع والكوارث وتراتيل الملوك الشرفية (تبدأ من عصر أور
الثالثة2113-2004 ق.م) والمحاكاة الأدبية للكتابات الملكية. وهناك أعداد
من النصوص التعليمية(الوعظية)، التي تتضمن: الوصايا أو التعليمات
الأخلاقية والمناظرات في صيغة الحوار ومجموعة من الخرافات (على لسان
الحيوانات) والنوادر والأمثال والأقوال الشائعة، فضلاً عن نصوص أدبية
متفرقة(3).
ونرى من الضروري الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بإعداد
الكشوف الخاصة بالنصوص الأدبية القديمة لم يكن من الإفرازات الحضارية
لعصرنا الحديث، وإنما سبقنا إليه مبدعون من الحضارات القديمة نفسها التي
أنتجت، قبل آلاف السنين، ذلك الأدب الذي نأتي اليوم على دراسته. فقد قام
كتبة قدماء في بلاد وادي الرافدين بإعداد قوائم على ألواح الطين بعناوين
النصوص الأدبية. ووصلنا إثنان من الرقم الطينية التي تحمل مثل تلك القوائم
من موقع مدينة نفر، في الديوانية، وآخر موجود الآن في متحف اللوفر في
فرنسا، وقد درسهما عالم المسماريات صموئيل نوح كريمر في كتابه(من ألواح
سومر)(4).
وتمثل التراتيل أفضل نوع من أنواع الأدب السومري، وبضمنها
الترانيم والإبتهالات والأدعية، ولدينا من هذه التراتيل ما يقارب سبعة
وعشرون نصاً. ونجد أن صياغة التراتيل السومرية كانت فناً عالياً يرعى
بعناية، وكان مصقولاً إلى درجة عالية. وقد ظهرت أقدم التراتيل في حوالي
منتصف عصر السلالات المبكرة (من 2900 - 2350 ق.م). وكانت التراتيل، بدون
شك، ضمن مجموعة الوسائل الأقدم لمخاطبة الإله. وقد كتبت بحرص كبير على
الشكليات، فليس هناك كلمة منفردة يمكن أن تتغير على نحو إعتباطي، بسبب أن
لا أحد يتصور في الترتيلة وجود شيء للصدفة، فكل منها له بعض المحتوى
الأسطوري الدقيق. وبشكل عام يمكن تقسيم التراتيل، إستناداً إلى محتوياتها،
إلى أربعة أصناف رئيسة:
1- التراتيل التي ألفت لتمجيد الآلهة.
2- التراتيل التي تمجد الملوك.
3- الأدعية الترتيلية التي تحتوي على أناشيد الحمد للآلهة موشاة بتبريكات وصلوات من أجل الملوك.
4- التراتيل التي كتبت تمجيداً للمعابد السومرية(5).
صممت هذه التراتيل لكي تقرأ من قبل كاهن واحد أو كورس بصوت عال. إذ أن
العواطف التي تعبر عنها هذه التراتيل وتحث عليها كانت جماعية. وتعكس مثل
هذه المؤلفات الكاملة قوة مستوطنة في الإيقاع اللغوي، يمكن أن تدرك سحرياً
وعاطفياً(6).
غالباً ما تمجد هذه التراتيل الآلهة وتسرد مآثرها،
أسمائها وألقابها. وقد وصلتنا في معظمها هذه التراتيل من تقاليد مدرسية من
مدينة نفر. وكانت في معظم الحالات، مكرسة للإله أنليل، كبير الآلهة
السومرية والإله الحامي لمدينة نفر، وكذلك كرست للآلهة من حاشيته(7).
فضلاً عن ذلك، هناك تراتيل كرست للمعابد والملوك، وبشكل خاص للملوك
المؤلهين تحديداً، وليس لكل الملوك السومريين الأكفاء(.
وتظهر
دائماً برفقة التراتيل، مجموعة من المراثي، والتي تعود أيضاً إلى نصوص
العبادة العامة. ويعد هذا النوع من الأدب، أدباً سومرياً نموذجياً جداً،
وبشكل خاص الكوارث الوطنية. وقد وصلنا من هذا الضرب من الأدب عشرة نصوص،
وكان العمل الأدبي الأقدم من هذا النوع الذي نعرفه لا يرتبط بالعبادة
الإلهية، إنه مرثية عن تحطيم مدينة لگش من الملك لوگال زاگيزي (2340- 2316
ق.م)، ملك مدينة أُوما عدوتها اللدودة. وتتألف هذه المرثية من 105 مقاطع،
وتخبرنا عن الفواجع التي إنصبت على مدينة لگش مع إدانة لهذا للفعل
الإجرامي. وجاءتنا أيضاً مجموعة أخرى من الأعمال المماثلة، منها مرثية
سومر وأكد(9)، وكذلك عن تحطيم مدن أور ونفر وأريدو وأوروك (الوركاء= أُرخ
التوراتية)(10)، وجميع هذه المراثي ترتبط بالطقوس. وتؤلف مثل هذه الأعمال
الأدبية عادة عندما تتم إعادة إعمار المدن المحطمة، أو بمناسبة تدمير معبد
قبل بناء معبد جديد في نفس مكانه.
ونجد سلسلة مميزة من القصائد أو
الأغاني الدينية من بين نصوص العبادة، وهي تدور حول إلهة الحب الطموحة
والمغامرة والكثيرة الطلبات الإلهة إينانا- (عشتار الأكدية) وزوجها الإله-
الراعي دموزي، واحدة منها تبدأ من نزول هذه الإلهة إلى العالم السفلي
وتنتهي بموت دموزي، وهي تروي أسطورة حول موت وإحياء الآلهة، والتي ترتبط
بطقوس متماثلة. ويقع هذا العمل الأدبي الروائي في 412 سطراً، وهو يعرض لنا
كيف تقع إلهة الحب الشهواني (الجسدي) والخصب الحيواني، الإلهة إينانا في
حب الإله- الراعي (أو البطل الراعي) دموزي، وتتخذه زوجاً لها. وفيما بعد،
تنزل إلى العالم السفلي على ما يظهر، لتتحدى سلطة ملكته(11). وقد كانت
الإلهة إينانا قد قتلت، إلا أنها أعيدت للحياة من خلال وسائل الخداع الذي
لعبته الآلهة. فقد سمح لها بالعودة إلى الأرض تحت شرط واحد وهو أن تدفع
فدية حية للعالم السفلي(12). كانت الإلهة إينانا تبجل في مختلف المدن
السومرية، وكان لها في كل مدينة زوج أو محبوب. جميع هؤلاء الآلهة خروا على
ركابهم متعبدين مطالبين الرحمة منها. إلا أن الإله دموزي فقط هو من رفض
الإذعان لها، وبدل من البكاء على هبوط زوجته إلى العالم السفلي حيث قاست
ألوان العذاب والموت، فإنه «ارتدى جبة فخمة وجلس متربعاً على
عرش» وتفاخر بذلك، فما كان من الإلهة إلا أن أشارت إلى الشياطين
بأخذه بديلاً عنها وفق الإتفاق الذي يقضي بإرسال من ينوب عنها بالعالم
السفلي. وحاولت أخته المساعدة بالطلب من الإله أوتو(شمش الأكدي) الإله
البحار، أن يحوله إلى حيوان لإخفائه، فعمل ذلك من غير إحترام، وأخفاه
لثلاث مرات. وأخيراً قتل دموزي وحمل إلى العالم السفلي، وعملت أخته
گشتينانا على وضع نفسها كضمان ليعود دموزي حياً لنصف سنة، بينما هي نزلت
لعالم الأموات، وبينما عاد الإله الراعي لحكم العالم، فإن إلهة النبات
كانت قد ماتت. عموماً فإن بناء الأسطورة كان أكثر تعقيداً من القصص
البسيطة عن موت وبعث آلهة الخصب الشائعة في كتبنا الأدبية(13).
وتؤلف
القصص والملاحم الخاصة بالبطولة والأبطال موضوعاً بارزاً في الأدب السومري
بشكل خاص، وأدب بلاد وادي الرافدين بشكل عام. وتضمن تقليد نفر(أي نسخ هذه
الأعمال في الأيدوبا= المدرسة) تسع أساطير منظومة شعرياً عن أعمال الأبطال
الذين، وفقاً لقائمة الملوك، يعودون إلى السلالة الأولى شبه الأسطورية في
مدينة الوركاء، وهم كل من أينمركار ولوگالبندا وگلگامش(14). يبدو أن تقليد
نفر أٌبتدع خلال عصر سلالة أور الثالثة، إذ كان ملوكها يرتبطون على نحو
قريب بمدينة الوركاء. إذ تتبع عائلة مؤسس هذه السلالة (الملك أورنمو
2113-2095 ق.م) الخط إلى گلگامش. وربما ضُمت أساطير الوركاء في تقليد
مدينة نفر، بسبب أن نفر كانت هي المركز الحضاري، ومهما حدث للمدينة كمركز
للمملكة فأنها دائماً ما ترغب في أن ترتبط بها، أي بمدينة نفر(15). خلال
عصر سلالة أور الثالثة وسلالة إيسن الأولى كان التقليد الأدبي المنتظم من
نفر يستمر في الأيدوبا في مدن أخرى(16).
جميع الأساطير
البطولية(الملاحم) المعروفة لدينا من تلك الأوقات كانت في مرحلة تشكيل
سلسة أو دورية، تقدم نموذج من الملاحم (على سبيل المثال مجموعة من الأبطال
من خلال مكان ولادتهم الذي كان أحد المراحل في هذه المتسلسلات). ونستطيع
القول بثقة كبيرة أن السومريين هم أول من أوجد وطور الأدب الملحمي المؤلف
من روايات قصصية بطولية وضعت في صيغ شعرية. ومر السومريون، كما مر الإغريق
والهندوس والتيوتونيون القدامى، في تأريخهم المبكر خلال عصر بطولي تتكشف
روحه ومزاجه في تقاليده الملحمية. وبدافع تعطشهم للشهرة والصيت، ذلك
الدافع الذي هو من خصائص الطبقة الحاكمة المميزة خلال أي عصر بطولي، كان
الملوك والأمراء يأمرون المنشدين والمغنيين الملحقين بالقصر بارتجال قصائد
أو أغنيات قصصية تمجد مغامراتهم وإنجازاتهم. وكانت هذه الأناشيد الملحمية،
التي كان هدفها الرئيسي تسلية المدعوين في ولائم القصر والأعياد المتعددة،
تنشد على ما يرجح مصحوبة بالعزف على القيثارة أو على آلة موسيقية أخرى
شبيهة بها(17).
كانت هذه القصص، على كل حال، بخواص أو عناصر مختلفة
كذلك ليسهل جمعها معاً كملاحم. ومؤلفات الأنساب من مختلف العصور كان بعضها
أكثر إنجازاً وإكتمالاً(مثل القصيدة المميزة حول لوگالبندا والنسر
الضخم)(18)، وبعضها الأخر أقل منها بكثير. وإنه من الصعب جداً أن تحدد،
حتى ولو تقريبياً، متى أُلفت هذه القصص، كما أن بعض موضوعاتها هي إضافات
متأخرة. ويمكن للمرء أن يصطلح على وصفها بالأساطير الإبداعية أو
الإبتداعية، لأن الموضوع الذي تدور حوله قد تم إبداعه وتشكيله كله بإعتماد
بسيط على القصائد الأسطورية القديمة، ثم جرت صياغته وتكييفه حسب النسق
الأسطوري الدارج(19). وقد خضعت الأساطير للتحول على مر القرون، بأية حال،
من الواضح بأنها شكلت نوع أدبي مبكر والذي تطور أخيراً إلى الملحمة. البطل
في مثل هذه المؤلفات لم يكن لحد الآن بطلاً ملحمياً نموذجياً، بارز في
خواصه، وغالباً تراجيدي، ولكن هو أكثر من رجل محظوظ في الحكايات السحرية
أو حكايات الجن، ويرتبط بالآلهة، ولكنه ليس إلهاً بنفسه؛ أو أنه ملك كامل
القوة بصفات إلهية محددة(20).
غالباً ما يكتشف المؤرخون للآداب
التباين بين الملاحم البطولية(أو القصص الممهد لها) وما يسمى بالملاحم
الأسطورية، ففي النوع الأول الأبطال كانوا رجالاً، أي من الجنس البشري، في
حين أنهم في النوع الثاني كانوا من الآلهة. مثل هذا التصنيف غير قابل
للتطبيق في الأدب السومري الذي كان فيه تصوير مشهد قتال الآلهة، أقل من
النماذج التي تصور مشهد البطل الدنيوي أو البشري(21).
(خاص للمعهد)
يحتل
الأدب السومري المحض منزلة عالية بين إبداعات الإنسان المتمدن الفنية، حتى
أن المقارنة بينه وبين الروائع الإغريقية والعبرانية لا تؤدي إلى أحكام في
غير صالحه إلى درجة كبيرة. فمثله مثل تلك الروائع يعكس الحياة الروحية
والفكرية لحضارة قديمة، ولولاه لبقيت هذه الحضارة مجهولة بصورة عامة.
ومهما قيل في أهمية هذا الأدب لتقويم التطور الحضاري والعقلي في كل الشرق
الأدنى القديم بشكل مناسب، فإنه لا يكون قولاً مبالغاً فيه. فقد أخذ
الأكديون والآشوريون والبابليون هذه الأعمال بكاملها تقريباً، وترجم
الحثيون والحوريون والكنعانيون بعضاً منها إلى لغاتهم الخاصة، وقلدوها بلا
شك تقليداً واسعاً. وتأثرت صيغة الأعمال الأدبية العبرانية ومحتواها(1)،
بل حتى أعمال قدماء الإغريق تأثرت إلى حد ما تأثراً عميقاً بالأعمال
الأدبية السومرية(2).
لدينا الآن أكثر من مئة وخمسين عملاً أدبياً
سومرياً، العديد منها حفظت في شكل كسر متشظية. وتضم هذه الأعمال؛ حكايات
أسطورية بشكل نظم شعري وملاحم شعرية وترنيمات مقدسة وأغاني الحب الزوجية
التي ترتبط بالزواج المقدس للملوك المؤلهين والكاهنات والمراثي الجنائزية
والشكوى من الفواجع والكوارث وتراتيل الملوك الشرفية (تبدأ من عصر أور
الثالثة2113-2004 ق.م) والمحاكاة الأدبية للكتابات الملكية. وهناك أعداد
من النصوص التعليمية(الوعظية)، التي تتضمن: الوصايا أو التعليمات
الأخلاقية والمناظرات في صيغة الحوار ومجموعة من الخرافات (على لسان
الحيوانات) والنوادر والأمثال والأقوال الشائعة، فضلاً عن نصوص أدبية
متفرقة(3).
ونرى من الضروري الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بإعداد
الكشوف الخاصة بالنصوص الأدبية القديمة لم يكن من الإفرازات الحضارية
لعصرنا الحديث، وإنما سبقنا إليه مبدعون من الحضارات القديمة نفسها التي
أنتجت، قبل آلاف السنين، ذلك الأدب الذي نأتي اليوم على دراسته. فقد قام
كتبة قدماء في بلاد وادي الرافدين بإعداد قوائم على ألواح الطين بعناوين
النصوص الأدبية. ووصلنا إثنان من الرقم الطينية التي تحمل مثل تلك القوائم
من موقع مدينة نفر، في الديوانية، وآخر موجود الآن في متحف اللوفر في
فرنسا، وقد درسهما عالم المسماريات صموئيل نوح كريمر في كتابه(من ألواح
سومر)(4).
وتمثل التراتيل أفضل نوع من أنواع الأدب السومري، وبضمنها
الترانيم والإبتهالات والأدعية، ولدينا من هذه التراتيل ما يقارب سبعة
وعشرون نصاً. ونجد أن صياغة التراتيل السومرية كانت فناً عالياً يرعى
بعناية، وكان مصقولاً إلى درجة عالية. وقد ظهرت أقدم التراتيل في حوالي
منتصف عصر السلالات المبكرة (من 2900 - 2350 ق.م). وكانت التراتيل، بدون
شك، ضمن مجموعة الوسائل الأقدم لمخاطبة الإله. وقد كتبت بحرص كبير على
الشكليات، فليس هناك كلمة منفردة يمكن أن تتغير على نحو إعتباطي، بسبب أن
لا أحد يتصور في الترتيلة وجود شيء للصدفة، فكل منها له بعض المحتوى
الأسطوري الدقيق. وبشكل عام يمكن تقسيم التراتيل، إستناداً إلى محتوياتها،
إلى أربعة أصناف رئيسة:
1- التراتيل التي ألفت لتمجيد الآلهة.
2- التراتيل التي تمجد الملوك.
3- الأدعية الترتيلية التي تحتوي على أناشيد الحمد للآلهة موشاة بتبريكات وصلوات من أجل الملوك.
4- التراتيل التي كتبت تمجيداً للمعابد السومرية(5).
صممت هذه التراتيل لكي تقرأ من قبل كاهن واحد أو كورس بصوت عال. إذ أن
العواطف التي تعبر عنها هذه التراتيل وتحث عليها كانت جماعية. وتعكس مثل
هذه المؤلفات الكاملة قوة مستوطنة في الإيقاع اللغوي، يمكن أن تدرك سحرياً
وعاطفياً(6).
غالباً ما تمجد هذه التراتيل الآلهة وتسرد مآثرها،
أسمائها وألقابها. وقد وصلتنا في معظمها هذه التراتيل من تقاليد مدرسية من
مدينة نفر. وكانت في معظم الحالات، مكرسة للإله أنليل، كبير الآلهة
السومرية والإله الحامي لمدينة نفر، وكذلك كرست للآلهة من حاشيته(7).
فضلاً عن ذلك، هناك تراتيل كرست للمعابد والملوك، وبشكل خاص للملوك
المؤلهين تحديداً، وليس لكل الملوك السومريين الأكفاء(.
وتظهر
دائماً برفقة التراتيل، مجموعة من المراثي، والتي تعود أيضاً إلى نصوص
العبادة العامة. ويعد هذا النوع من الأدب، أدباً سومرياً نموذجياً جداً،
وبشكل خاص الكوارث الوطنية. وقد وصلنا من هذا الضرب من الأدب عشرة نصوص،
وكان العمل الأدبي الأقدم من هذا النوع الذي نعرفه لا يرتبط بالعبادة
الإلهية، إنه مرثية عن تحطيم مدينة لگش من الملك لوگال زاگيزي (2340- 2316
ق.م)، ملك مدينة أُوما عدوتها اللدودة. وتتألف هذه المرثية من 105 مقاطع،
وتخبرنا عن الفواجع التي إنصبت على مدينة لگش مع إدانة لهذا للفعل
الإجرامي. وجاءتنا أيضاً مجموعة أخرى من الأعمال المماثلة، منها مرثية
سومر وأكد(9)، وكذلك عن تحطيم مدن أور ونفر وأريدو وأوروك (الوركاء= أُرخ
التوراتية)(10)، وجميع هذه المراثي ترتبط بالطقوس. وتؤلف مثل هذه الأعمال
الأدبية عادة عندما تتم إعادة إعمار المدن المحطمة، أو بمناسبة تدمير معبد
قبل بناء معبد جديد في نفس مكانه.
ونجد سلسلة مميزة من القصائد أو
الأغاني الدينية من بين نصوص العبادة، وهي تدور حول إلهة الحب الطموحة
والمغامرة والكثيرة الطلبات الإلهة إينانا- (عشتار الأكدية) وزوجها الإله-
الراعي دموزي، واحدة منها تبدأ من نزول هذه الإلهة إلى العالم السفلي
وتنتهي بموت دموزي، وهي تروي أسطورة حول موت وإحياء الآلهة، والتي ترتبط
بطقوس متماثلة. ويقع هذا العمل الأدبي الروائي في 412 سطراً، وهو يعرض لنا
كيف تقع إلهة الحب الشهواني (الجسدي) والخصب الحيواني، الإلهة إينانا في
حب الإله- الراعي (أو البطل الراعي) دموزي، وتتخذه زوجاً لها. وفيما بعد،
تنزل إلى العالم السفلي على ما يظهر، لتتحدى سلطة ملكته(11). وقد كانت
الإلهة إينانا قد قتلت، إلا أنها أعيدت للحياة من خلال وسائل الخداع الذي
لعبته الآلهة. فقد سمح لها بالعودة إلى الأرض تحت شرط واحد وهو أن تدفع
فدية حية للعالم السفلي(12). كانت الإلهة إينانا تبجل في مختلف المدن
السومرية، وكان لها في كل مدينة زوج أو محبوب. جميع هؤلاء الآلهة خروا على
ركابهم متعبدين مطالبين الرحمة منها. إلا أن الإله دموزي فقط هو من رفض
الإذعان لها، وبدل من البكاء على هبوط زوجته إلى العالم السفلي حيث قاست
ألوان العذاب والموت، فإنه «ارتدى جبة فخمة وجلس متربعاً على
عرش» وتفاخر بذلك، فما كان من الإلهة إلا أن أشارت إلى الشياطين
بأخذه بديلاً عنها وفق الإتفاق الذي يقضي بإرسال من ينوب عنها بالعالم
السفلي. وحاولت أخته المساعدة بالطلب من الإله أوتو(شمش الأكدي) الإله
البحار، أن يحوله إلى حيوان لإخفائه، فعمل ذلك من غير إحترام، وأخفاه
لثلاث مرات. وأخيراً قتل دموزي وحمل إلى العالم السفلي، وعملت أخته
گشتينانا على وضع نفسها كضمان ليعود دموزي حياً لنصف سنة، بينما هي نزلت
لعالم الأموات، وبينما عاد الإله الراعي لحكم العالم، فإن إلهة النبات
كانت قد ماتت. عموماً فإن بناء الأسطورة كان أكثر تعقيداً من القصص
البسيطة عن موت وبعث آلهة الخصب الشائعة في كتبنا الأدبية(13).
وتؤلف
القصص والملاحم الخاصة بالبطولة والأبطال موضوعاً بارزاً في الأدب السومري
بشكل خاص، وأدب بلاد وادي الرافدين بشكل عام. وتضمن تقليد نفر(أي نسخ هذه
الأعمال في الأيدوبا= المدرسة) تسع أساطير منظومة شعرياً عن أعمال الأبطال
الذين، وفقاً لقائمة الملوك، يعودون إلى السلالة الأولى شبه الأسطورية في
مدينة الوركاء، وهم كل من أينمركار ولوگالبندا وگلگامش(14). يبدو أن تقليد
نفر أٌبتدع خلال عصر سلالة أور الثالثة، إذ كان ملوكها يرتبطون على نحو
قريب بمدينة الوركاء. إذ تتبع عائلة مؤسس هذه السلالة (الملك أورنمو
2113-2095 ق.م) الخط إلى گلگامش. وربما ضُمت أساطير الوركاء في تقليد
مدينة نفر، بسبب أن نفر كانت هي المركز الحضاري، ومهما حدث للمدينة كمركز
للمملكة فأنها دائماً ما ترغب في أن ترتبط بها، أي بمدينة نفر(15). خلال
عصر سلالة أور الثالثة وسلالة إيسن الأولى كان التقليد الأدبي المنتظم من
نفر يستمر في الأيدوبا في مدن أخرى(16).
جميع الأساطير
البطولية(الملاحم) المعروفة لدينا من تلك الأوقات كانت في مرحلة تشكيل
سلسة أو دورية، تقدم نموذج من الملاحم (على سبيل المثال مجموعة من الأبطال
من خلال مكان ولادتهم الذي كان أحد المراحل في هذه المتسلسلات). ونستطيع
القول بثقة كبيرة أن السومريين هم أول من أوجد وطور الأدب الملحمي المؤلف
من روايات قصصية بطولية وضعت في صيغ شعرية. ومر السومريون، كما مر الإغريق
والهندوس والتيوتونيون القدامى، في تأريخهم المبكر خلال عصر بطولي تتكشف
روحه ومزاجه في تقاليده الملحمية. وبدافع تعطشهم للشهرة والصيت، ذلك
الدافع الذي هو من خصائص الطبقة الحاكمة المميزة خلال أي عصر بطولي، كان
الملوك والأمراء يأمرون المنشدين والمغنيين الملحقين بالقصر بارتجال قصائد
أو أغنيات قصصية تمجد مغامراتهم وإنجازاتهم. وكانت هذه الأناشيد الملحمية،
التي كان هدفها الرئيسي تسلية المدعوين في ولائم القصر والأعياد المتعددة،
تنشد على ما يرجح مصحوبة بالعزف على القيثارة أو على آلة موسيقية أخرى
شبيهة بها(17).
كانت هذه القصص، على كل حال، بخواص أو عناصر مختلفة
كذلك ليسهل جمعها معاً كملاحم. ومؤلفات الأنساب من مختلف العصور كان بعضها
أكثر إنجازاً وإكتمالاً(مثل القصيدة المميزة حول لوگالبندا والنسر
الضخم)(18)، وبعضها الأخر أقل منها بكثير. وإنه من الصعب جداً أن تحدد،
حتى ولو تقريبياً، متى أُلفت هذه القصص، كما أن بعض موضوعاتها هي إضافات
متأخرة. ويمكن للمرء أن يصطلح على وصفها بالأساطير الإبداعية أو
الإبتداعية، لأن الموضوع الذي تدور حوله قد تم إبداعه وتشكيله كله بإعتماد
بسيط على القصائد الأسطورية القديمة، ثم جرت صياغته وتكييفه حسب النسق
الأسطوري الدارج(19). وقد خضعت الأساطير للتحول على مر القرون، بأية حال،
من الواضح بأنها شكلت نوع أدبي مبكر والذي تطور أخيراً إلى الملحمة. البطل
في مثل هذه المؤلفات لم يكن لحد الآن بطلاً ملحمياً نموذجياً، بارز في
خواصه، وغالباً تراجيدي، ولكن هو أكثر من رجل محظوظ في الحكايات السحرية
أو حكايات الجن، ويرتبط بالآلهة، ولكنه ليس إلهاً بنفسه؛ أو أنه ملك كامل
القوة بصفات إلهية محددة(20).
غالباً ما يكتشف المؤرخون للآداب
التباين بين الملاحم البطولية(أو القصص الممهد لها) وما يسمى بالملاحم
الأسطورية، ففي النوع الأول الأبطال كانوا رجالاً، أي من الجنس البشري، في
حين أنهم في النوع الثاني كانوا من الآلهة. مثل هذا التصنيف غير قابل
للتطبيق في الأدب السومري الذي كان فيه تصوير مشهد قتال الآلهة، أقل من
النماذج التي تصور مشهد البطل الدنيوي أو البشري(21).